تفسير آيات الأحكام من سورة النور
معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
...............................................................................
ثم في الآيات التي بعدها عاد إلى ذكر الذين قذفوا عائشة اسم> والذين أيضا يقذفون غيرها فقوله -تعالى- رسم> إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قرآن> رسم> ذكرنا في الآيات التي قرأنا في اليوم الأول قوله -تعالى- رسم> وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قرآن> رسم> ذكرنا بالأمس أن الآيات نزلت في المحصنات وهن جنس النساء، ولا يجوز الاقتصار على جنس النساء؛ فإن قذف الرجال كذلك، فإن للرجال حرمة كما للنساء؛ وإنما اقتصر على النساء لأن الغالب عليهن الحياء، وعدم المطالبة بحقهن، والغيرة على الرجال أن من قذف منهم فإنه سينتصر ممن قذفه وسيشتكيه، ويطالب بحقه فاقتصر على النساء مع أن الرجال كذلك، إذا قذف رجلا فإن لذلك المقذوف أن يطالب بحقه بإقامة الحد عليه.
هذا الحد الدنيوي الذي تقدم في الآيات بالأمس، أما هذه الآيات ففيها العقوبة الأخروية إذا قدر -مثلا- أن إنسانا قذف إنسانا، قذف رجلا أو قذف امرأة؛ وذلك المقذوف استحيى أن يطالبه، ووكل أمره إلى الله -تعالى- هو يعلم أنه مظلوم ويعلم أن هذا الظالم جبار، وأنه لا يقدر على أخذ الحق منه لكونه كبيرا أو لكونه رئيسا أو ما أشبه ذلك فقال: أمري إلى الله -تعالى- هو الذي ينتقم لي منه، ففي هذا يكون الوعيد الأخروي الذي ذكر في هذه الآيات رسم> الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ قرآن> رسم> ذكرنا معنى المحصنات -فيما سبق- أن المراد بها العفيفة المحصنة التي أحصنت نفسها وأحصنت فرجها وحفظت عرضها، ولم يكن هناك تهمة توجه إليها بل هي معروفة بالحصانة ومعروفة بالرزانة.
حصـان رزان مـا تـزن بريبـة | وتصبح غـرثى من لحوم الغوافـل |
وصفهن بأنهن غافلات يعني: أنهن في غفلة عن ما رمين به، ولسن يحدثن أنفسهن بهذا الأمر السيئ الذي هو فعل الفاحشة، رجالا أو نساء لا يخطر ببال أحدهم أن يفعل هذا المنكر، ولا أن يزني؛ لأنه يعرف بشاعة الزنا وأنه فاحشة وساء سبيلا، فهم غافلون عن ما يرميهم به هؤلاء الفسقة الذين يتلذذون بأعراض الأبرياء، وأعراض المؤمنين.
في قوله رسم> الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ قرآن> رسم> هذه شروط الإحصان: هو العفاف والغفلة يعني كونهم بعيدين عن ما يتهمون به، وكونهم من أهل الإيمان، يخرج بذلك الذي يقذف كافرا فإن الكافر لا حرمة له الوعيد في هذه الآيات وعيد شديد رسم> لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قرآن> رسم> لعنوا يعني: أبعدوا عن الخير، وأبعدوا عن الفضل، وأبعدوا عن الصلاح في دنياهم وأخراهم؛ فليسوا أهلا أن تقبل شهادتهم، وليسوا أهلا أن يقربوا، ولا أن يصاحبوا ولا أن يؤووا؛ إلا إذا كالوا كما تقدم، فاللعن في الدنيا هو تعذيبهم بإقامة الحد وكذلك برد شهادتهم، وكذلك أيضا بعدم إيوائهم، وعدم صحبتهم، وعدم مقاربتهم وعدم إيوائهم أو نصرهم أو تأييدهم على شيء من ذلك، فإن ذلك إعانة على الفحشاء والمنكر، وأما في الآخرة فلعنهم في الآخرة أنهم يستحقون العذاب، قد ذكرنا أن اللعن في الآخرة يدل على أن ذلك الذنب من كبائر الذنوب التي لا تغفر إلا بالتوبة إلا أن يشاء الله -تعالى- ولهم عذاب عظيم هذا العذاب يحتمل أنه عذاب الدنيا الذي هو الجلد ونحوه، ويحتمل أنه عذاب الآخرة في البرزخ وما بعد البرزخ .
رسم> يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قرآن> رسم> يعني في الدار الآخرة؛ حيث إنهم كاذبون تنطق عليهم جوارحهم، تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، ينطق الله جوارحهم فينطق اللسان ويقول: أنا الذي كذبت، وتكلمت بكذا وكذا. وتنطق الأيدي وتنطق الأرجل وتشهد علهم جوارحهم بما عملوا كما في قول الله -تعالى- في آية أخرى رسم> الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ قرآن> رسم> وفي قول الله -تعالى- رسم> شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قرآن> رسم> فجوارحهم تشهد عليهم في الآخرة بما عملوا عندما ينكرون ذلك، يقول: لا أقبل شهيدا علي إلا من نفسي فتنطق جوارحه، وتتكلم بما عمل، فيقول بعد ما يخلى بينه وبين الكلام: سحقا لكن، فعنكن كنت أجادل.
رسم> تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قرآن> رسم> دينهم يعني: جزاءهم يوفيهم الله -تعالى- الجزاء الذي يستحقونه؛ وذلك بحسب أعمالهم في الآخرة، يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، أي: ما يدينون به وما يدانون به، يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ويعلمون أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أنه لا يعاقبهم ولا يجازيهم إلا بما يستحقون، ويعترفون بأن هذا الجزاء الذي يجازيهم به أنهم أهل له، وأنهم مستحقون له، وأنه ما عاقبهم بأشد مما يستحقون، يعترفون بعد ذلك وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين.
مسألة>